كتب جنيد أحمد أن الولايات المتحدة، التي تتدثر بعباءة التفوق الأخلاقي، صوّرت جنوب أفريقيا كخصم جديد لمجرد أنها اختارت التفكير المستقل. فواشنطن، في مسرح غضبها المصطنع، حولت بلداً خرج من حقبة الفصل العنصري إلى "مذنب" يتحدى هيمنتها. ما يجري ليس سياسة بقدر ما هو عرض مسرحي، لكن الممثلين مدججون بالسلاح، والكلفة تتحملها سيادة الدول.
أوضح تقرير ميدل إيست مونيتور أن المسرح بدأ بأسطورة "إبادة البيض". استخدم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب صوراً ملفقة لمزارعين بيض قُتلوا ووجّهها إلى الرئيس سيريل رامافوزا، رغم أن بعض الصور لا علاقة لها بجنوب أفريقيا. ابتلع اليمين الأمريكي هذه الرواية وتظاهر بالقلق على حقوق الأراضي في الخارج، بينما في الداخل تعامل مع معاهدات السكان الأصليين كقطع متحفية. ثم منحت واشنطن صفة لاجئ لحوالي ستين من الأفريكانيين، وكأنها أنقذت شعباً مهدداً، في خطوة أقرب إلى استعراض سياسي.
فرضت الإدارة الأمريكية بعدها رسوماً جمركية بنسبة 30% على صادرات المزارع الجنوب أفريقية مثل الحمضيات والتفاح والنبيذ والمكسرات، بحجة السياسة التجارية. لكن الدافع الحقيقي كان الغضب من منافسة قادمة من الجنوب العالمي. بدت المفارقة صارخة: واشنطن التي تبشر بحرية الأسواق تنقلب إلى حماية تجارية حين تخسر.
انقلبت السياسة أيضاً على برامج المساعدات. قلّصت وكالة التنمية الدولية تمويلها لبرامج مكافحة الإيدز واللقاحات، ما أضعف قطاع الصحة في بلد يعيش فيه أكثر من سبعة ملايين مصاب بفيروس HIV. لم يكن السبب تحسناً صحياً بل عقاباً سياسياً. الانسحاب من برامج حيوية بهذا الحجم عكس لامبالاة خطيرة.
في ميدان الدبلوماسية، أشعلت واشنطن توتراً متصاعداً. أعلن بريتوريا السفير الأمريكي شخصاً غير مرغوب فيه بعد تجاوزاته، بينما رأت واشنطن في تدريبات بحرية بين جنوب أفريقيا وروسيا والصين تهديداً مباشراً. أما موقف الحياد تجاه أوكرانيا فاعتبرته الولايات المتحدة خيانة، إذ لا مكان في منطقها لخيارات مستقلة.
أثار انضمام جنوب أفريقيا إلى مجموعة بريكس غضب واشنطن، التي تعاملت مع الخطوة كخيانة كبرى. اعتُبر سعي بريتوريا لتنويع شراكاتها الاقتصادية محاولة لتقويض النظام الأحادي. بالنسبة للأمريكيين، لم يكن بريكس تجمعاً اقتصادياً بل مؤامرة سرية.
غير أن القشة التي قصمت ظهر واشنطن جاءت عندما رفعت جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة في غزة. اعتبرت واشنطن الخطوة تجديفاً، لأن إسرائيل في نظرها دولة محصنة ضد المحاسبة. تاريخ جنوب أفريقيا في مقاومة الأبارتهايد منحها سلطة أخلاقية أربكت الولايات المتحدة، التي اعتادت احتكار توجيه اتهام الإبادة لخصومها فقط.
اعتبر التقرير أن الجريمة الكبرى لبريتوريا ليست سياساتها الزراعية أو حيادها، بل كونها آخر حرف في كلمة "بريكس". فواشنطن ولندن شنّتا حروباً مفتوحة ضد بقية الأعضاء: روسيا عوقبت بالعقوبات، الصين بالرسوم والاحتواء، البرازيل بالمناورات السياسية، أما الهند فاستُخدمت كورقة في مواجهة بكين. بقيت جنوب أفريقيا، فكان لزاماً إضعافها عبر العقوبات والرسوم وقطع المساعدات وتشويه السمعة.
تاريخياً، يذكّر المشهد بمحاولات الغرب سحق محاولات الاستقلالية: من تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، إلى حركة عدم الانحياز، مروراً بغزو العراق لتحديه تجارة النفط باليورو، وتدمير ليبيا بعد اقتراحها ديناراً ذهبياً أفريقياً. واليوم تدفع جنوب أفريقيا ثمن مقعدها في بريكس.
المفارقة تكمن في أن جنوب أفريقيا تسعى إلى شراكة اقتصادية مع الغرب مع احتفاظها باستقلالها السياسي، بينما تصر واشنطن على أن السيادة امتياز حصري لها ولحلفائها. والنتيجة خسارة متبادلة: جنوب أفريقيا تفقد شراكات، وأمريكا تفقد مصداقية.
يشير الكاتب إلى أن واشنطن، خلال فترة الفصل العنصري، كانت تبرر سياساتها بشعار "الاستقرار". أما اليوم، فتستند فقط إلى الغضب والعقوبات. المسرح الحالي لا ينتج سياسة، بل كوميديا مرتجلة، لكن ضحاياها شعوب تعاني.
يخلص المقال إلى أن الحرب الأمريكية على جنوب أفريقيا لا تتعلق بحقوق أو ديمقراطية بل بالهيمنة. الهدف هو قمع أي توجه نحو عالم متعدد الأقطاب. غير أن المأساة بالنسبة لواشنطن أن خطابها الأخلاقي فقد بريقه، وبات يكشف نفاقها. جنوب أفريقيا، رغم عيوبها، رفضت الانصياع وأكدت أن السيادة ليست منحة أمريكية بل حق أصيل للشعوب. في ذلك التحدي تكمن الجرأة الحقيقية، لأن ما تخشاه الإمبراطوريات ليس الحرب أو الفقر بل فقدان التأثير.
https://www.middleeastmonitor.com/20250823-the-spectacle-of-moral-hypocrisy-when-america-condemns-south-africa/